الحرب الأوكرانية- تحليل استراتيجي لتداعياتها على النظام العالمي والعالم العربي

في الثاني من فبراير/شباط عام 2022، كتبت مقالًا بعنوان "تحليل مختصر عن الحالة الأوكرانية"، حيث طرحت السؤال المصيري: هل ستندلع شرارة الحرب الكبرى بين روسيا وحلف شمال الأطلسي (الناتو) في حال قررت روسيا غزو أوكرانيا؟
آنذاك، كان الجواب يميل إلى استبعاد وقوع حرب مباشرة بين الناتو وروسيا، وذلك بسبب تعقيدات المأزق الإستراتيجي الذي يواجهه جميع الأطراف. كنت قد توقعت أن السيناريو الأكثر ترجيحًا هو احتلال روسي سريع لأوكرانيا وتنصيب نظام سياسي تابع وموالٍ لموسكو.
غالبًا ما تنجرف الجماهير نحو إصدار أحكام قاطعة أو نهائية باندفاع عاطفي، منجذبة إلى لغة القوة ومنطق فرض السيطرة وتحديد المنتصر والمنهزم في هذه الصراعات، وتضفي على الرئيس بوتين صفات القوة والصلابة والشجاعة والإقدام على قراره الحاسم بالتوغل العسكري في أوكرانيا
وهذا تحديدًا ما تحاول روسيا تنفيذه على أرض الواقع. ففي الحادي والعشرين من فبراير/شباط الماضي، اعترفت روسيا رسميًا بـ "جمهورية دونيتسك الشعبية" و"جمهورية لوغانسك الشعبية"، وبعد ذلك، في الرابع والعشرين من الشهر نفسه، بدأت "غزوها" الشامل لأوكرانيا. استهدفت القوات الروسية مواقع عسكرية حيوية وتسببت في تدهور كبير في البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات الأوكرانية، كما سيطرت على محطة تشرنوبل النووية. في ذلك اليوم المشؤوم، أعلن الرئيس الأوكراني الأحكام العرفية في جميع أنحاء البلاد.
في ختام ذلك المقال، حذرت من أن هذا السيناريو المؤسف سيؤدي حتمًا إلى زعزعة استقرار النظام العالمي، ودفعه نحو مزيد من الضبابية والغموض. كما توقعت أن يضعف تماسك النظام الدولي المستقر ويدفع باتجاه بروز قوى منفردة تتنافس على النفوذ، مما يمثل بداية لمرحلة تكوين نظام عالمي جديد غير مكتمل ويزيد من حدة الصراعات المحلية والإقليمية والدولية.
تجدر الإشارة إلى أنه من السابق لأوانه إصدار حكم نهائي حول نتائج هذه الحرب الدائرة في أوكرانيا، فالحرب ما زالت مستمرة ونهايتها لا تزال مجهولة.
وكما ذكرت سابقًا، غالبًا ما تندفع الجماهير نحو إصدار أحكام دامغة أو نهائية بعاطفة جياشة، منجذبة إلى منطق القوة وفرض السيطرة وتحديد المنتصر والمنهزم، وتضفي صفات العظمة على بوتين وقراره الحازم بالتدخل العسكري في أوكرانيا. في المقابل، يسارع بعض المحللين إلى اتهام بايدن والأوروبيين بالخداع والتخلي عن حليفهم الأوكراني، مستندين في ذلك إلى ضعف الدعم والمساعدة المقدمة للرئيس الأوكراني والشعب الأوكراني.
بالمقابل، يرى البعض الآخر أن خداع بايدن والأوروبيين يهدف إلى إيقاع بوتين في الفخ الأوكراني واستنزافه دون أن يتكبدوا هم أنفسهم خسائر كبيرة، وكأن بوتين طالب ساذج يجهل قواعد السياسة وكلفة الحروب.
لكن هذه التحليلات والأحكام غالبًا ما تكون سطحية ومضللة. ففي عالم السياسة الدولي الجاد، لا مكان للجهل والسذاجة. فالسياسات والمواقف والحروب تستند إلى خبرات وتخصصات ومؤسسات تخطيط إستراتيجي متينة. هذه المؤسسات تقدم لصناع القرار السياسي تقديرات مدروسة للموقف، تعتمد على دراسات معمقة. ربما تنتشر ثقافة الجهل الإستراتيجي والانحياز العاطفي في المواقف والتحليلات في عالمنا العربي، لذا فمن الضروري إجراء مقاربة للحالة الإستراتيجية للأطراف الفاعلة في هذه الحرب، انطلاقًا من الأسس التالية:
القاعدة الأولى: بناء سيناريوهات متعددة للقرار السياسي بالحرب أو السلام
في النظام الدولي وعلاقاته وتشابكاته، تتخذ القرارات المصيرية بناءً على دراسة الحالة الإستراتيجية والدراسات النفسية للقادة السياسيين والعسكريين. ويتم استخلاص تقديرات للموقف ورسم سيناريوهات مختلفة، تحسبًا لتغير الظروف الداخلية بسبب ضغوطات القرار السياسي بالحرب أو بسبب عوامل خارجية أقوى تغير مسار التخطيط العسكري في الحرب، كما شهدنا هزيمة هتلر في الحرب العالمية الثانية في شتاء لينينغراد وحصار كييف.
القاعدة الثانية: النظرية الجيوإستراتيجية في توظيف الجيوبوليتيك الخاص بالدولة
هنا، نشير إلى أن لكل دولة إمكانات فريدة وموقعًا جغرافيًا إستراتيجيًا وقدرات سياسية واقتصادية وعسكرية وتقنية وديموغرافية، تستخدمها لتحقيق محيط حيوي (جيوإستراتيجي) خاص بها. النظرية الإستراتيجية هنا تتمثل في كيفية استغلال الدولة لموقعها الجغرافي، إما عن طريق التفاوض أو الحرب أو كليهما.
الولايات المتحدة وحلفاؤها، وكذلك روسيا، تسعى جاهدة لتأمين متطلبات محيطها الحيوي القادر على توسيع مصالحها وأهدافها ونفوذها وسيطرتها في جغرافية العالم وموارده القيّمة.
في العشرين سنة الماضية، شهدنا تمددًا وازدهارًا ونموًا في القوة الجيوبوليتيكية لكل من روسيا (بقيادة بوتين) والصين، على حساب الولايات المتحدة وأوروبا. وقد اتجهت كل من روسيا والصين إلى توسيع محيطهما الحيوي، بسبب تراكم الطاقة الجيوبوليتيكية ونموها وحاجتها للتوسع، مما يشكل تهديدًا للمحيط الحيوي للولايات المتحدة وتحالفها في بحر الصين وخطوط التجارة البحرية العالمية. بالإضافة إلى ذلك، نرى تمددًا روسيًا في الشرق الأوسط وأفريقيا وشرق أوروبا وجزيرة القرم وبيلاروسيا وجورجيا.
كل ذلك أوجد حالة استقطاب دولية عبرت عن نفسها بإيجاد منظومات دولية اقتصادية وعسكرية وسياسية تجمع روسيا والصين ودولًا إقليمية أخرى، على حساب الولايات المتحدة وحلفائها، مما ينذر بتحول النظام العالمي نحو حالة الأقطاب المتضادة التي سبقت الحربين العالميتين الأولى والثانية.
يأتي قرار الحرب في أوكرانيا منسجمًا مع التوسع الحيوي (الجيوإستراتيجي) لروسيا، ويهدف إلى حشد الأقطاب الجديدة.
في المقابل، تسعى الولايات المتحدة جاهدة لاستعادة أوروبا من جديد لإدامة محيطها الحيوي في القارة العجوز لمواجهة روسيا بوتين الجديدة.
القاعدة الثالثة: لا فائز حقيقي في الحرب، وإنما خسائر طرف أقل من الطرف الآخر
قد يعتقد المراقب العادي أن ما يحدث في أوكرانيا هو نصر لروسيا على حساب الناتو وحلفائه وهزيمة لأوكرانيا.
لكن الحقيقة هي أن جميع الأطراف خاسرة في هذه الحرب. ومن السابق لأوانه تحديد الطرف الأكثر تضررًا حتى نهاية هذه الحرب التي قد تنتهي خلال أسبوع أو تستمر لأشهر قادمة. والسبب في ذلك هو أن روسيا لا تواجه أوكرانيا وحدها (وهي الطرف الأضعف عسكريًا)، بل تواجه حلف الناتو والولايات المتحدة وأوروبا بكل إمكاناتهم وسياساتهم. هذه القوى قادرة على تحويل أوكرانيا إلى مأزق إستراتيجي لروسيا على المدى المتوسط.
لقد أدت التصريحات والسياسات الأوروبية والأمريكية خلال الأيام القليلة الماضية (26 و27 و28 فبراير/شباط الماضي) إلى إعلان بوتين عن تعبئة جزء من القوة النووية الروسية ووضعها في حالة تأهب قصوى، مما يعني أن الأزمة لا تزال في بدايتها وقد تتطور إلى صراع دولي أوسع، ولكن على الأراضي الأوكرانية وعلى الحدود الروسية.
لذلك، ما لم يتم حسم المعركة بسرعة، فمن الصعب الانسحاب من هذا المستنقع دون تكبد خسائر كبيرة، حتى على المدى البعيد. والنموذج الأميركي في أفغانستان والعراق يمثل خير دليل على صعوبة إنهاء الحروب وتحقيق النصر الحقيقي.
الآن، وبعد هذا التأسيس النظري، ننتقل إلى تحليل الوضع المستجد بعد "غزو" روسيا لأوكرانيا.
استثمار الولايات المتحدة لحالة الحرب
ربما يتبادر إلى أذهان الكثيرين أن قرار الولايات المتحدة بعدم إرسال قواتها للدفاع عن أوكرانيا هو قرار جبان وتراجع عن دورها القيادي. وهذا بالطبع ما ذهب إليه العديد من المحللين ومعارضي بايدن في الحزب الجمهوري. ولكن، عند الإستراتيجيين، لا يتم وصف قرارات دخول الحروب بهذه الأوصاف، بل يتم تقييمها بناءً على حسابات الأرباح والخسائر المحتملة من اتخاذ موقف التدخل العسكري المباشر ضد روسيا في أوكرانيا.
فوفقًا لتصريح بايدن، فإن بوتين يواجه خيارين لا ثالث لهما: إما حرب عالمية ثالثة (وهو خيار مستبعد بالنسبة للولايات المتحدة)، أو فرض عقوبات اقتصادية شاملة على روسيا ما لم تتراجع وتنسحب من أوكرانيا.
لقد نجحت الولايات المتحدة في استثمار الأزمة الأوكرانية وتوظيفها لتعزيز تحالف دولي لمواجهة الصين (السيناريو الأسوأ والأكثر ترجيحًا). فأوروبا لم تكن متحمسة لخلاف الولايات المتحدة مع الصين، ولكنها الآن بحاجة ماسة إلى الدعم الأميركي في حلف الناتو لمواجهة روسيا الجديدة في أوكرانيا. ومع ذلك، لكل طرف حساباته الخاصة في الصراع المحتمل مع الصين.
لقد جنت الولايات المتحدة عدة مكاسب من هذا القرار. فمن خلال وضع أوكرانيا في مرمى المدفعية الروسية، والوعد بقبول طلب أوكرانيا بالانضمام إلى حلف الناتو (وهو وعد قطعه بايدن على نفسه للرئيس فولوديمير زيلينسكي خلال الحملة الانتخابية، مع العلم اليقيني بما يعنيه ذلك للروس)، تمكن بايدن ببراعة من استفزاز الدب الروسي ودفعه إلى حسم خيار الحرب. هذه الحرب تكلف روسيا ما يقارب المليار دولار يوميًا، وهو ما يمثل استنزافًا كبيرًا للخزينة الروسية إذا ما استمرت لأسابيع. وبالتالي، تمكنت الولايات المتحدة، من خلال الترويج لفزّاعة بوتين وروسيا النووية وتهديدهما للأوروبيين، من وضع الأوروبيين أمام خيارين لا ثالث لهما: إما مواجهة روسيا بسياسات العزلة الاقتصادية والسياسية واللوجستية، أو الخضوع لمنطق روسيا القوية الجديدة التي تهدد الأمن الأوروبي.
بالتالي، فإن الوضع الأوروبي الذي زعزعه ترامب في عهده (من خلال الضغط على البريطانيين للخروج من الاتفاقية الاقتصادية الأوروبية ووقف الدعم عن حلف الناتو)، وكذلك الخلاف بين بايدن وماكرون بشأن بناء الغواصات النووية لأستراليا، كل ذلك ساهم في إضعاف حالة الاتحاد الأوروبي عسكريًا وسياسيًا.
وتأتي خطوة المزايدة الإعلامية والدعم اللوجستي والتصريحات الاستفزازية الأميركية لإعادة جمع شمل الأوروبيين في موقف موحد تجاه روسيا، وإعادة توحيد الحلف الأطلسي وأوروبا في قراراتها الجديدة.
وبالتالي، كسبت الولايات المتحدة استثمارًا جديدًا في الأزمة وتوظيفها لتحالف قوى تجاه الصين (السيناريو الأسوأ والمتوقع)؛ إذ إن أوروبا لم تكن معنية بخلاف الولايات المتحدة مع الصين، وبالتالي فإن أوروبا تحتاج إلى دعم الولايات المتحدة في الناتو لمواجهة روسيا الجديدة في أوكرانيا ولكنْ كلٌّ له حسابه في مستقبل الصراع المتوقع مع الصين.
ثانيًا: إدخال الدول المحيطة بأوكرانيا إلى دائرة الخوف من الدب الروسي المتقدم لينصب صواريخه على حدودها إذا ما تم اجتياح أوكرانيا وتغير نظامها، ومن هذه الدول بولندا، وسلوفاكيا، والمجر، ورومانيا، ومولدوفا. وكل هذه الدول قد دخلت كدول في حلف الناتو بين عامي 1999 و2004، لكن بعضها كان مترددًا في نصب صواريخ إستراتيجية على أراضيها، وها هي الآن أصبحت على مرمى المحيط الجنوبي والغربي لروسيا، وبالتالي فإن هذه الدول أصبحت أكثر قناعة لنصب صواريخ وتخزين أسلحة دمار شامل واستحداث قواعد للحلف الأطلسي على أراضيها، وهو استثمار ناجح للولايات المتحدة.
ثالثًا: لم يوجد أي مبرر لنقل قوات أميركية في العقد الماضي إلى دول ملاصقة لأوكرانيا أو لدول شرق أوروبا -كاليونان ورومانيا- وهذا ما حدث، فالقوات الأميركية موجودة عمليًا على أرض بعض هذه الدول حاليًا، بما يعزز المكانة الإستراتيجية للولايات المتحدة.
رابعًا: كانت الدول الأوروبية والولايات المتحدة تحتاج لذريعة لمنع الغواصات والأساطيل العسكرية البحرية الروسية عبور البحر الأسود، وأتت الفرصة الآن لإحراج تركيا لتفعيل اتفاق "الدردنيل"، ولتقوم بمنع هذه السفن من المرور، وإذا ما تم تطبيق العقوبات الاقتصادية بجدية، فإن السفن التجارية الروسية أيضًا ستجد المصير نفسه.
خامسًا: لم تستطع الولايات المتحدة سابقًا بأن تضع أوروبا ودولًا أخرى لفرض عقوبات على موسكو، خصوصًا بعد احتلال روسيا شبه جزيرة القرم ودعم الانفصاليين في إقليم دونباس (دونيتسك ولوغانسك) وكذلك عند التدخل في سوريا وغيرها، وأنضجت الحالة الأوكرانية هذه العقوبات لتصبح العقوبات الأميركية الأوروبية والدولية الأوسع منذ الحرب الباردة.
فقد بدأ الحصار الاقتصادي لروسيا، إذ تم الاتفاق على إقصاء وفصل بنوك وهيئات روسية محددة من نظام "سويفت" (SWIFT) المالي البنكي، واتخاذ إجراءات ضد البنك المركزي الروسي بتجميد أمواله في البنوك الأوروبية، ولمنع روسيا من الوصول إلى احتياجاتها المالية وتأثير ذلك على طبقة الأثرياء الروسية (طبقة كبيرة منهم قادة في الأمن والجيش الروسي) بعدم مقدرتهم على استخدام أموالهم.
وضرب البورصة الروسية وتأثير ذلك على الأسواق العالمية، ولذلك فإن 80% من الشركات التي يعتمد عليها الاقتصاد الروسي ستضرر، وتُرك منها فقط 2% منها ليعتمد عليها الشعب الروسي في أزمته.
وبالطبع، يدرك الشعب الروسي أن ذلك سيهدد نظامهم المالي، وبذلك استطاعت الولايات المتحدة جر الأوروبيين لتطبيق هذه العقوبات ضد روسيا ولم تكن تحلم بذلك من قبل.
سادسًا: لقد أدى "غزو" روسيا لأوكرانيا إلى تحفيز دول أوروبية كألمانيا وفرنسا وبريطانيا وهولندا لإرسال مزيد من المساعدات العسكرية المباشرة إلى أوكرانيا.
ولأول مرة بعد الحرب العالمية الثانية، تعلن ألمانيا عن خروجها عن السياق العام من سياساتها في دعم الأطراف المتحاربة في أوروبا، وتدعم طرفًا تعرض لهجوم، فقد أعلن المستشار الألماني ذلك -في كلمته أمام البرلمان الألماني 27 فبراير/شباط الماضي- وهي سابقة تاريخية. وألمانيا دولة أوروبية عظمى لها وزنها العسكري والمادي، كما أعلنت دعم أوكرانيا بألف قذيفة للمضادات الدبابات، و500 صاروخ ستينغر المضاد للطائرات. وقدمت الولايات المتحدة منذ الأزمة ما يقارب مليار دولار مساعدات عسكرية. وكذلك دعمت هولندا أوكرانيا بـ200 صاروخ ستينغر ومعدات عسكرية. وهناك اتفاق أوروبي جماعي بإرسال دعم عسكري ومالي لكييف.
وذلك لتطوير الصمود والمقاومة، بما يشكل تغييرًا على مسرح العمليات على الأرض الأوكرانية.
تراهن أوروبا والولايات المتحدة الأميركية على دور تأثيرات هذه العقوبات الاقتصادية تدريجيًا، ولتجعل الخسائر الأكبر في الجانب الروسي عسكريًا وماديا ولتحدث الضغوط الداخلية والشعبية في روسيا مما قد يسهم في الخروج من هذا المأزق.
فتطوير المقاومة الأوكرانية ستكون إستراتيجية للولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين.
لا شك أن إنهاك روسيا في هذه الحرب سيؤدي إلى الانشغال بمواجهة الناتو وحلفائه، مما يمنع روسيا من الالتفات للصين ودعمها لو نشب صراع في بحر جنوب الصين بينها وبين الولايات المتحدة وحلفائها، وهو ما سعت له إدارة بايدن، وهو عزل روسيا عن الصين إما بالمفاوضات والتفاهمات أو بإستراتيجية الحرب المستعارة وإدارتها من الخلف.
ألمانيا تتجه لتصبح قطبا دوليا نتيجة للحرب الجديدة في أوكرانيا
في إعلان تاريخي، قررت ألمانيا على لسان مستشارها -أولاف شولتز- إعادة بناء جيشها وتجهيزه كقوة ردع، وخصصت 100 مليار يورو، وهي نتيجة مبكرة للحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، وهو تطور كبير وجديد منذ الحرب العالمية الثانية.
وقد توصلت ألمانيا مؤخرًا إلى أن استمرارها تحت مظلة الصراع بين الولايات المتحدة وروسيا سيجعلها رهينة لهما، لذا كان القرار إعادة تشكيل قوتها الخاصة للردع، وتطوير الجيش الألماني ليكون قويًا بحيث يعزز المكانة السياسية والاقتصادية الألمانية، وربما يجعلها قطبا دوليا متوقعا مع المتغيرات الجديدة.
روسيا وسيناريو الحرب
لكن من جهة أخرى، تقوم روسيا -وفق هذا السيناريو- بحصد مكاسب قد خططت لها إستراتيجيا، وهذه أهم المكاسب التي تتوقع روسيا أن تحققها من هذه الحرب:
سيضع فوز روسيا في أوكرانيا رمزا ملهما عالميا أمام الأقطاب الجديدة (كالصين والهند وإندونيسيا والبرازيل وجنوب أفريقيا وغيرها) والدول المتضررة من سياسات الولايات المتحدة والغرب ويدعوها إلى الالتحاق بالمنظومات الجديدة التي ربما تنشأ بعد الحرب الروسية الأوكرانية
أولا: إسقاط نموذج أوكرانيا -بوصفها دولة حاضنة للسلاح النووي للحلف الأطلنطسي- واستبعاده بوصفه مهددًا للأمن القومي الروسي؛ وهو هدف عالي المستوى إستراتيجيًا ومقدم على كل الأهداف لجعل روسيا قوية ومؤثرة في قرارها العالمي المنافس.
ثانيا: توسيع محيط حيوي جديد لروسيا باعتبارها قوة جيوبوليتيكية نامية ومزدهرة بضم شبه جزيرة القرم وجنوب شرق أوكرانيا و بالاعتراف بسيادة "جمهورية دونيتسك الشعبية" و"جمهورية لوغانسك الشعبية"، وبالتالي فإن الأهمية الإستراتيجية والاقتصادية ستنعكس على روسيا، حيث مصانع الحديد وإنتاج الحبوب متركزة في هذه المناطق، وهي سلع حيوية للعالم.
ثالثا: تغيير النظام السياسي لأوكرانيا بالمفاوضات، باستثمار سيناريو الحرب وإرغام الرئيس الأوكراني بالتخلي عن منصبه وإسقاط حليف الغرب، وإيجاد قيادة سياسية وعسكرية جديدة موالية لروسيا، وتتخذ مواقف محايدة مع الناتو، وربما في المستقبل تقوم بتوقيع اتفاقية دفاع مشترك مع روسيا، وعندها يمكن لروسيا أن تنصب أسلحتها الإستراتيجية بدلا من الأطلسي.
رابعا: يشكل الانتصار والفوز في الحرب لروسيا عاملا ضاغطا على الدول الأوروبية الشرقية المحيطة بأوكرانيا للتفاهم مع روسيا بألا تكون عاملا مهددا لروسيا، خصوصا إذا ما اختلف الأوروبيون حول مفهوم الأمن الإستراتيجي وتأثير العقوبات الاقتصادية المرتدة على الاقتصاد الغربي.
خامسا: سيضع فوز روسيا في أوكرانيا رمزا ملهما عالميا أمام الأقطاب الجديدة (كالصين والهند وإندونيسيا والبرازيل وجنوب أفريقيا وغيرها) والدول المتضررة من سياسات الولايات المتحدة والغرب، ويدعوهم إلى الالتحاق بالمنظومات الجديدة التي ربما تنشأ بعد الحرب الروسية الأوكرانية، لتضع ملمحا جديدا يشكل نظاما عالميا جديدا تحلم به الكثير من الدول المتضررة من سيادة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين على مؤسسات الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمنظمات الدولية.
سادسا: سيجسد الفوز في أوكرانيا نظرية بوتين في روسيا العظمى وسيكون بوتين رئيسا شعبيا حقق للروس المكانة العالمية التي فقدها الاتحاد السوفياتي بعد 1991.
سابعا: لا شك أن روسيا قبل الدخول في الحرب درست نتائج المقاطعة الاقتصادية واتخذت إجراءات لتقليل الآثار الاقتصادية للعقوبات الاقتصادية الأميركية والأوروبية والدولية.
إذ تعتبر روسيا مصدرا لأهم سلعتين في العالم الغاز والنفط من جهة، والقمح من جهة أخرى، وهي أهم حاجات العالم (الطاقة والغذاء)؛ وبالتالي فإنه يمكن الاستعاضة عبر نظام المقايضة بدون سويفت، وتستطيع روسيا أن تستفيد من ارتفاع أسعار النفط والغاز والقمح في إيراداتها لمعالجة آثار هذه العقوبات.
وقد اعتمدت روسيا أيضا بديلا عن سويفت وهو "نظام الدفع الدولي عبر الحدود" (Cips) الذي بدأ عام 2015 ليكون بديلا، ولديه الآن 1186 مؤسسة مالية في 100 دولة مسجلة، ويمكن أن تستخدم روسيا العملة الصينية لتستعيض بها عن الدولار كما أن عند روسيا نظاما مكافئا للسويفت اسمه نظام تمويل الرسائل المالية، وإن كان صغيرا في حجمه.
وربما تتجه روسيا لتطوير التعامل بنظام الروبل الرقمي كنظام للمدفوعات، خصوصا للتبادل التجاري فيما بينها وبين الصين فهو معتمد عند الصين.
وأيضا ربما تتجه روسيا إلى عمليات سيبرانية لإتلاف النظام المالي الغربي، وربما سرقة الأموال من البنوك الأوروبية.
كما قد تسعى روسيا لتأميم الممتلكات والأموال الأوروبية الموجودة في روسيا، واعتبارها مقايضة للودائع الروسية التي في البنوك الأوروبية.
وطبعا هذا لا يعني أن روسيا لن تتأثر من العقوبات الاقتصادية الأميركية والأوروبية ولكن ستقلل من تأثيراتها وتعتمد على تحسين الموقف الإستراتيجي للحرب.
الولايات المتحدة وأوروبا وارتدادات العقوبات الاقتصادية
لا شك أن العقوبات الاقتصادية الأوروبية والأميركية ستكون مؤثرة على الاقتصاد الروسي، ولكن بالمقابل أيضا ستكون هناك ارتدادات لهذه العقوبات أيضا على أوروبا والولايات المتحدة.
فحجم التبادل التجاري بين روسيا والاتحاد الأوروبي يقارب 300 مليار يورو (2018) وانخفض بسبب أزمة كورونا بنسبة 21%.
وهذا يؤثر على كل الأطراف إذا ما طبقت العقوبات، وتتضرر فيه شركات أوروبية، عدا أن تأميم الممتلكات الأوروبية في روسيا سيؤثر بشكل كبير على قطاعات وشركات أوروبية.
وتستورد أوروبا 35% من احتياجاتها من الغاز من روسيا، ومع الحرب ارتفعت أسعار النفط والغاز وتأثرت خطوط الإمداد كخط "يامال أوروبا" و"نورد ستريم 1″ وخط "ترك ستريم"، فإن الأوروبيين والأميركيين طلبوا من قطر واليابان توفير شحنات إضافية من الغاز، لكن لا تستطيع هاتان الدولتان توفير الكفاية العالمية. ستتجه بالطبع أوروبا لإيجاد مصادر بديلة وتوسيع مشاريع الطاقة المتجددة والفحم وخيارات أخرى لتعويض نقص الغاز. وبالطبع، سيؤثر ذلك على القدرة الإنتاجية للدول الأوروبية نسبيا، كما سيؤثر بالطبع على معدلات التضخم لأسعار الوقود والسلع المرتبطة به.
المنطقة العربية وتأثيرات الحرب الروسية الأوكرانية
ما يهمنا كثيرا هو ما مدى تأثير الحرب على الدول والمجتمعات العربية في المنظور القريب.
إن أهم تأثيرات هذه الحرب هي التأثيرات الاقتصادية، وانقطاع سلاسل الغذاء بالدرجة الأولى، إن أهم سلع الحياة النفط والغاز والقمح (الطاقة والغذاء)، وكلاهما ستقل إمداداتها وترتفع أسعارهما وسيتأخر توريدهما.
وسيؤثر هذا الانقطاع بشكل مباشر على كثير من الدول العربية، فالدول العربية ذات مستويين، المنتجة للطاقة والمستهلكة لها، والمستوردة للقمح والمنتجة له.
فدول كمصر تعتبر أكثر دولة استيرادا للقمح الروسي والأوكراني بنسبة 50%، ولن تستطيع شراء القمح بالسعر الجديد، حيث تعتبر روسيا وأوكرانيا أكبر المصدرين للقمح، وتعتبر روسيا المصدر العالمي الأول للغاز. كما أن اليمن تعتبر أكبر دولة سيهددها انقطاع سلاسل الغذاء، وخصوصا القمح، على ضوء المحنة والحرب القائمة حاليا، إذ يحصل على نصف المتطلبات من الحبوب من أوكرانيا.
وتعد سوريا "المحمية الروسية" ملزمة بشراء القمح الروسي لحاجتها. ومع تراجع الاحتياطات النقدية للسودان، فهو مهددا أيضا، وتأتي الجزائر لتكون ثانية مستهلك للقمح في أفريقيا، وستستفيد الولايات المتحدة من بيع قمحها بأسعار جديدة.
أما الدول المنتجة للطاقة فإنها ستستفيد من ارتفاع الأسعار وتستطيع التغلب على ارتفاع الأسعار، لكنها ستتعرض للضغوط الروسية والأوروبية والأميركية من أجل توفير الكميات اللازمة لتغطية عجز موارد الطاقة (النفط والغاز)، وهذا سيجعلها تدفع كلفا عالية من الالتزام (قطر اعتذرت عن قدرتها الكافية، والسعودية رفضت رفع إنتاج النفط بضغط أميركي).
سنة التدافع
إن سنة التدافع بين القوى العظمى هي سنة كونية، قال تعالى: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض" (سورة البقرة: 251).
وهي سنة لإعادة الاتزان بين البشرية حتى لا يعم الفساد في الأرض ويخرب العمران وتفسد الحياة، لكن من المهم أن تستغل دول شعوب المنطقة العربية فرصة التدافع لاستثمارها في صيانة عمرانها ولتقليل مخاطر وآثار الحروب ودمارها على البشرية.
فهي فرصة لو أحسنت استغلالها النظم السياسية العربية والشعوب والنخب والمؤسسات في تفعيل تضامن لمعالجة حالة الكارثة الغذائية المتوقعة في مناطق الصراع في المنطقة العربية والمناطق الفقيرة، وتأسيس صندوق إغاثي خليجي لهذا الغرض وإعانة الدول الضعيفة واستثمار هذا المال في سلة استثمار غذائية في بلدان زراعية، كالسودان ومصر واليمن والصومال وغيرها، ولسد ثغرة انقطاع السلاسل الغذائية المتوقعة.
فبالرغم من مرور نحو 6 أيام على الحرب، وبروز التدافع الغربي مع روسيا، فإنه لم يجتمع العرب بمؤسساتهم السياسية أو الاقتصادية لمناقشة تأثيرات هذه الحرب على شعوبهم ومستقبلهم.
كما أن بوادر تشكل اتجاه عالمي نحو محاور جديدة من الأقطاب الإقليمية والدولية وملامح التغير في هيكل النظام العالمي وتوازن القوة فيه باتت واضحة للعيان، وهذا لا يعني أن قوتي الولايات المتحدة وأوروبا تتجهان إلى الضعف بقدر ما هو إعادة توازن القوة في النظام الدولي الجديد، فأين موقع العرب من هذا التدافع.
إن خلاصة ما يجب أن ينتبه له الناس والحكومات في هذه المنطقة العربية والإسلامية هو تأمين موقعهم السياسي والاقتصادي والأمني على ضوء المستجدات الجديدة وتأمين الأمن والحياة الكريمة من دون جوع قال تعالى -جل في علاه- "الذى أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف" (سورة قريش الآية 4).